الدكتور عادل عامر يكتب: توجيه موارد الدولة للمشروعات القومية
للمشروعات القومية الكبرى فوائد اقتصادية وتنموية عديدة: فهي تساعد على حشد الموارد والاستثمارات المحلية والدولية، ورفع معدلات التشغيل، وزيادة الطلب المحلى على مستلزمات البناء، كما أنها تساهم في جلب تقنيات حديثة للبلاد. هذا كله بجانب ما يضيفه المشروع العملاق في حد ذاته إلى الاقتصاد القومي سواء كان سدا مائيا، أم قناة ملاحية، أم ملايين الأفدنة، أم مدينة سكنية جديدة. المشروعات الكبرى إذن ــ لو أحسن اختيارها ــ
يمكن أن تكون قاطرة لجذب الاقتصاد نحو النمو والإنتاج والتشغيل. ولكن لهذه المشروعات العملاقة أيضا جانب سياسي وإعلامي لا يمكن إغفاله، ولذلك نجد أن كل حكم جديد يسعى لإطلاق مشروع قومي عملاق أو أكثر لكى يميز به بدء المرحلة الجديدة ويحشد التأييد الشعبي ويستحضر من خلاله فكرة إعادة بناء الدولة على أنقاض ما كان موجودا من قبل. على الجانب المقابل فإن إصلاح وتطوير الخدمات والمرافق العامة القائمة، وتجديد شبكات الصرف الصحى والمدارس والوحدات الصحية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها، وتطوير المؤسسات والمصالح الحكومية التى يتعامل معها المواطنون كل يوم، برغم أنها أكثر ما يؤثر فى حياة الناس بشكل مباشر
وبدورها تساعد على تحفيز الاقتصاد، فإنها لا تحظى بالقدر ذاته من الاهتمام الرسمى والإعلامى لأنها إصلاحات بطبيعتها تدريجية وبطيئة وتحتاج لسنوات من العمل التراكمى لكى تؤتى نتائج ملموسة، ولذلك فإننى أطلق عليها وصف «المشروعات القومية الصغرى» ليس لعدم أهميتها، بل لإنها تتطلب عملا دءوبا وصبرا فى إصلاح آلاف الوحدات الخدمية ومراجعة عشرات القوانين واللوائح وبذل جهد فى كل قرية وكل مركز وكل حى سكنى، دون أن تحقق مكاسب سياسية سريعة أو تصاحبها احتفالات كبرى أو اهتمام اعلامى على نحو ما تجلبه المشروعات القومية العملاقة.
هذا لا يعنى أن هناك اختيارا سليما بين هذا الاتجاه أو ذاك بشكل مطلق، فليس كل مشروع قومى جديد مجرد مكسب إعلامى، ولا كل نظام قديم قابل للإصلاح أصلا. ولكن هناك توازنا مطلوبا بين إطلاق المزيد من المشروعات القومية الكبرى وبين العمل على تحسين وصيانة وتطوير الخدمات العامة القديمة، خصوصا فى ظل الموارد المحدودة والعجز فى الموازنة العامة، بما يجعل الحاجة ماسة لحسن اختيار الأولويات التى تحقق العائد الأكبر اقتصاديا واجتماعيا.
قناة السويس الجديدة وما تشمله من توسيع وتعميق للمجرى الحالي وكذلك حفر تفريعة جديدة موازية وعدة أنفاق تحت القناة. 2- تطوير إقليم قناة السويس وجعله مركزا لوجستيا وصناعيا. 3- المثلث الذهبي للتصنيع ويستهدف الاستفادة من الثروات المعدنية في صحراء مصر الشرقية. 4- إحياء مشروع توشكي المتعثر والذي تم إطلاقه في 1997. 5- استصلاح 4 مليون فدان زراعي في سيناء والصعيد لتنمية هذه المناطق وزيادة الحصيلة الزراعية. 6- مدينة العلمين الجديدة والتي تهدف لإحداث تنمية متكاملة في منطقة الساحل الشمالي الغربي. 7- بناء شبكة طرق تبلغ حوالي ٣ آلاف كيلو متر تربط المحافظات المختلفة وتسعي لتطوير حركة النقل والتجارة.
وتوضح المشروعات القومية عزم الدولة على قيادة التنمية وتحريك عجلة الاقتصاد، لكنها تأتي بتكلفة مالية كبيرة مع حجم المشروعات المطروحة. وعلى الرغم من أهمية النظر للتكلفة المالية إلا أنه من المهم أيضا النظر لما يعرف بتكلفة الفرصة البديلة لهذه المشروعات. فصانع القرار دائما ما تكون لديه خيارات متعددة مثل إطلاق مشروع قومي جديد، أو استكمال مشروع سابق، أو تسديد متأخرات على الحكومة، أو تطوير قطاع خدمي أو ما خلافه، فاختيار مشروع بعينه يعني التضحية بمشروع آخر. ولذلك فمن الضروري الأخذ في الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة للنظر لهذه المشروعات بشكل استراتيجي ومتكامل. وفي هذا الصدد يمكن التركيز على عدة جوانب رئيسية:
أولا: طبيعة المشروعات القومية:
المشروعات القومية كالتي تم إطلاقها طويلة المدى بطبيعة الحال وعادة ما تتم على عدة مراحل حتى تكتمل ويأتي العائد منها متأخرا حيث تحتاج الحكومة لتطوير المناطق الجديدة والاستثمار في البنية التحتية لعدة سنوات، إن لم تكن عقود، حتى تصل لمرحلة تتيح للقطاع الخاص الاستثمار والتطوير. وبطبيعة الحال تحتاج هذه المشروعات لمصادر للطاقة، سواء كهرباء أو غاز، لتلبية احتياجات المصانع والمجمعات السكنية الجديدة، ولا يخفى على أحد العجز الذي توجهه مصر في الطاقة مقارنة بمستويات الاستهلاك الحالية.
ثانيا: التجارب السابقة والدراسات الغائبة:
مصر ليست حديثة عهد بالمشروعات القومية وتجاربها في هذا الصدد شديدة التباين، فمنها ما نجح كالسد العالي ومنها ما دون ذلك كتوشكى، والذي لم يحقق المستهدف منه بإستصلاح ٦٠٠ ألف فدان على الرغم من مرور ١٧ عاما على تدشين المشروع، مما يوضح أن الواقع في بعض هذه المشروعات قد يكون مغايرا للدراسات المبدئية. ومع حجم المعلومات الضئيل الذي يتم تداوله والذي يشير إلى عدم وجود دراسات كافية عن هذه المشروعات، فإن مخاطرة هذه المشروعات شديدة الإرتفاع وعائدها المتوقع تحوطه علامات استفهام كبيرة.
ثالثا: التمويل والقطاع المصرفي:
تتسم المشروعات القومية الكبرى بميزانية تطويرها الضخمة مما يجعل من الصعب تمويلها حاليا من داخل موازنة الحكومة، التي تعاني عجزا متصاعدا منذ الثورة، مما يدفع لتمويلها خارج الموازنة كما هو الحال في طرح شهادات استثمار قناة السويس الجديدة، والتي تسعي لجمع 60 مليار جنيه. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يمثل حوالي 3% من إجمالي أصول القطاع المصرفي، إلا أنه بعد الأخذ في الإعتبار ما تم توظيفه بالفعل في السندات الحكومية وتمويل العملاء، فإن الشهادات المطروحة تمثل حوالي 14% من صافي الأصول غير المستغلة،
مما يشير إلى الحجم النسبي الكبير لهذا المشروع والذي يأتي كطليعة لموجة من المشروعات سيؤدي تمويلها من خلال البنوك المحلية إلى أزمة سيولة حقيقية في القطاع المصرفي على المدى المتوسط، خاصة مع حاجة القطاع للاستمرار في تمويل عجز الموازنة. ولذلك فإن مثل هذه المشروعات تضغط بشدة على القطاع المصرفي وتحد من قدرته على تمويل القطاع الخاص الذي يعاني من مزاحمة الدولة له بأشكال متعددة. ثلث الاستثمارات العامة كان موجهًا نحو المشروعات القومية بقطاعات البنية التحتية، والنقل، والتوسع العمراني، والكهرباء، والصناعة، والزراعة، وغيرها. فالمشروعات القومية والاستثمار هي السبيل نحو تحقيق وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة.
رابعا: المشاكل الآنية الطارئة:
تعاني مصر مشاكل هيكلية متصاعدة يأتي على رأسها مشكلة الطاقة والتي تمثل ضغطا حقيقيا على المصانع التي تعاني من إنقطاع الطاقة بشكل دوري. وقد تتراوح خسائر المصنع الواحد للصناعات الثقيلة من نصف مليون إلى مليون جنيه في الساعة الواحدة لإنقطاع الكهرباء، في حالة الإعلام المبكر. ولعل من أسباب هذه المشكلة هو نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء والذي نتج عن عدم التوسع في الإنتاج نتيجة تراكم مديونية شركات البترول الأجنبية لدى الهيئة العامة للبترول لما يتخطى 6 مليار دولار. ولعله كان من الأولى العمل على تسوية هذه المديونية بأقصى سرعة لإستعادة ثقة هذه الشركات وحثها على التوسع في الإستكشاف والإنتاج بشكل يقلل من عجز الوقود الحالي. وينطبق نفس الكلام على العمل على تسوية مشاكل المستثمرين الحاليين سواء المحليين أو الأجانب قبل إطلاق مشروعات جديدة لجذب استثمارات جديدة. وفي أبريل 2021،
تم إطلاق البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية، وهو المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي، والذي يستهدف تحديث جانبي العرض والطلب، وتعزيز الاقتصاد الأخضر. من خلال استهداف الأسواق الثلاث المتداخلة: سوق المال، وسوق التجارة، وسوق العمل، ويتم التركيز بشكل أكبر على تنويع هيكل الإنتاجية لثلاثة قطاعات رئيسة ذات أولوية: الزراعة والصناعة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. وعلى الجانب الاقتصادي،
كانت البنية التحتية للطرق في مصر بيئة طاردة للاستثمار وخاصة الاستثمار الأجنبي لعدم وجود شبكة طرق جيدة تساعد في الوصول إلى كافة ربوع الدولة أو تربط بين الموانئ والسكك الحديدية بعضها بعض، هذا إلى جانب أنها تتسبب في إهلاك أصول الشركات من السيارات وزيادة استهلاك المحروقات نتيجة سلوك طرق أطول وأصعب للوصول لكافة أنحاء الجمهورية. في المقابل، تم تخصيص مبلغ 1.7 تريليون جنيه خلال الفترة من يونيو 2014 حتى يونيو 2024. لتنفيذ مشروعات النقل في كافة ربوع مصر، منها 600 مليار جنيه تم توجيهها لتنمية مشروعات النقل بالصعيد.
فتم تخصيص 474 مليار جنيه لمشروعات الطرق والكباري، و225 مليار جنيه لمشروعات السكك الحديدية، و837 مليار جنيه لمشروعات الجر الكهربائي، و115.6 مليار جنيه لمشروعات النقل البحري، و15 مليار جنيه لمشروعات الموانئ البرية والجافة والمناطق اللوجيستية، و3 مليار جنيه لمشروعات النقل النهري.
ليتم التوصيل الانسيابي بين مشروعات الطرق وتطوير موانئ الدولة (البرية – البحرية – الجوية)، بل وتعمل بعضها على الربط مع دول الجوار، مما يسهل من حركة التجارة والنشاط الاقتصادي داخل مصر وخارجها، وبالتالي دعم النمو الاقتصادي، هذا إلى جانب خلق فرص عمل للشباب، وتحقيق معدلات الأمان والسلامة، الأمر الذي أسهم في تحقيق قفزات غير مسبوقة في مؤشرات البنية التحتية العالمية. كذلك الأمر لمشروعات المياه والصرف الصحي، والتي تمحورت حول معالجة وإعادة استخدام المياه للاستفادة بكل نقطة مياه نحتاجها حاليًا -من خلال مشروعات معالجة مياه الصرف أو تحلية مياه البحر أو تبطين الترع- خاصة في ظل شح الموارد المائية المتاحة. والتي تم استخدامها في عشرات من مشروعات التوسع الأفقي للرقعة الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي للمواطن. لتعويض الرقعة الزراعية التي تم إهدارها نتيجة التعديات بالبناء على الأراضي الزراعية.
ولوقف هدر الأراضي الزراعية، تدخلت الدولة بإنشاء ملايين الوحدات السكنية بمشروعات سكنية تناسب كافة الفئات المجتمعية لتوفير سكن ملائم يتناسب مع الاحتياجات المتجددة للنمو السكاني المتزايد بأسعار مناسبة، إلى جانب مشروعات تطوير المناطق غير الآمنة والعشوائية، لرفع مستوى معيشة مئات الآلاف من الأسر. فالمدن الجديدة الآن يسكنها 10 مليون مواطن ولولاها لاستمر الزحف العمراني على الرقعة الزراعية، والبناء العشوائي وغير الآمن حتى الآن.
ومن المشروعات التي حظيت على كثير من الانتقاد بوصفها أحد المشروعات المصنفة بأنها ليست ذات أولوية وفق مفهوم البعض، وتوجيه الاستثمارات نحو التنقيب عن الغاز، والاكتفاء باستيراد كمية العجز من الخارج، دون أخذ في الحسبان تغيرات أسعار السوق نتيجة الأزمات العالمية وإهدار العملة الأجنبية. فقد بلغ العجز عام 2015/2016 حوالي 7.1 مليار م3، حيث سجل حجم الإنتاج 41.6 مليار م3، والاستهلاك 48.8 مليار م3. بينما بلغ العجز 8.9 مليار م3 في عام 2016/2017، حيث سجل حجم الإنتاج 46.3 مليار م3، والاستهلاك 55.2 مليار م3.
لكن مع اكتشاف حقل ظهر تغير الوضع من العجز والاستيراد إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وفائض الإنتاج؛ فمع بدء تشغيل حقل “ظهر” تراجع العجز، حيث سجل 4.9 مليار م3 في عام 2017/2018، وبلغ حجم الإنتاج 54.6 مليار م3، والاستهلاك 59.5 مليار م3. فتحقيق الاكتفاء الذاتي من أحد السلع الاستراتيجية كالغاز الطبيعي يقلل من الفاتورة الاستيرادية للدولة بالعملة الصعبة، خاصة في ظل أزمات خارجية قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار لمستويات غير مسبوقة كما هو الحال أثناء جائحة كورونا أو الأزمة الأوكرانية الأخيرة.
فاستثمارات الدولة خلال السنوات الأخيرة لم تكن مزاحمة للقطاع الخاص على الإطلاق، بل هي ممهد لطريقه؛ فتوافر البنية التحتية الجيدة هي اللبنة الأولى والأساسية لدخول واستدامة استثمارات القطاع الخاص. وعلى الجانب الآخر، فكثيرًا مما تم تنفيذه من مشروعات قومية قد تم بأيدي القطاع الخاص. فالسمة الرئيسة التي أصبحت تميز المشروعات المصرية أنها تتم بأيدٍ مصرية، هذا إلى جانب زيادة المكون المصري بكافة الخامات المستخدمة بالمشروعات القومية.
وتأكيدًا على جدوى الاستثمارات الأخيرة، فقد كان لها انعكاساتها على أغلب المؤشرات الاقتصادية، فقبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية انخفض معدل البطالة إلى 7.4%، فيما ارتفع معدل النمو الاقتصادي إلى 5.6%، وارتفع صافي الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى 44.5 مليار دولار، وانخفض عجز الموازنة العامة للدولة إلأى 6.3%، وهو ما أسفر عن تحسن تصنيف مصر في المؤشرات المالية والاقتصادية الدولية.
تعزيز دور القطاع الخاص
على عكس ما يتم الادعاء به من سيطرة القطاع الحكومي على الاستثمارات، دائما ما كانت نداءات الحكومة والقيادة السياسية بأن المجال مفتوح أمام القطاع الخاص لاقتحام مجالات مشروعات البنية التحتية والصناعات المختلفة، وتقليل الفجوة الاستيرادية للدولة.
الخلاصة أن موجة المشروعات القومية العملاقة التي تم الإعلان عنها مؤخرا لها تكفله غير مباشرة وهي تكلفة الفرصة البديلة الناتجة عن توجيه الموارد الاقتصادية المحدودة للمشروعات الجديدة، طويلة الأجل والمشكوك في عائدها، على حساب التضحية بحل الكثير من المشاكل الآنية الطارئة التي تمثل عائقا حقيقيا للأنشطة الاقتصادية القائمة، مما يجعل من الضروري انتهاج توجه تدريجي في دراسة وإطلاق هذه المشروعات بشكل يتناسب مع موارد الاقتصاد وأولوياته.