الدكتور عادل عامر يكتب : دور القانون الاقتصادي والمالي في مواجهة الأزمات الاقتصادية

 

إن الأزمة المالية العالمي أثرت على البورصات العربية أکثر من البنوک العربية، وهذا يعني ان قدرة الهيئات الرقابية على أسواق الأوراق المالية لإمتصاص أثر الأزمات الاقتصادية أقل من قدرة البنوک المركزية على ذلک. ويمکن تفسير جانب من هذه النتيجة بسبب وجود خلل في بنية وتركيبة هياكل أسواق المال لا سيما في دول الخليج بسبب معاناتها من قلة التنويع الاقتصادي، وحداثتها مقارنة بالجهاز المصرفي، کما يبدو بأن الرصد المبکر للأزمات والمخاطر أکثر نضجا في الجهاز المصرفي، فضلا عن الأهمية الاقتصادية الکبرى للجهاز المصرفي ودوره في تحقيق الاستقرار الاقتصادي. وفيما يتعلق بالسوق المحلي، يمکن الاستنتاج بان سوق رأس المال الوطني کان من أکثر القطاعات الاقتصادية المحلية تأثرا بالأزمات الاقتصادية المتعاقبة،

 

إن السياسات التحفظية التي کانت تتبعها بعض البنوک المرکزية وتلزم البنوک بالتقيد فيها، أثبتت جدواها لمواجهة الأزمة المالية العالمية على افتراض بقاء العوامل الأخرى على ما هي عليه. فعدم التشدد بالإقراض في الولايات المتحدة الأمريکية لم يوقف نزيف الإفلاس المصرفي الذي کان مصير أکثر من 200 بنک أمريکي رغم خطة الإنقاذ العملاقة. ورغم خطط الإنقاذ الکبيرة في الدول الغربية إلا إن هذه الخطط لم تعف من إفلاس عشرات البنوک الغربية وهذا يدل على إن هذه الخطط ساعدت بالحد من اثر الأزمة وليس وقفها، وبدون هذه الخطط ستکون تداعيات الأزمة وخيمة وربما تمتد لسنوات طويلة.

 

بعد الانتعاش الاقتصادي الذي مرّ به العالم في منتصف العقد الماضي والذي استمر حوالي ثلاثة أعوام، ورافق ذلک تفاؤل کبير بين المستثمرين، وتوافر السيولة المالية، وانتعاش الاستثمار العابر للقارات بشکل غير مسبوق، ووصول أسعار النفط إلى مستويات قياسية وغير معهودة، فاق العالم على أزمة مالية عالمية في منتصف شهر أيلول من العام 2008، وصفها المتخصصون بأنها الأعنف والأکثر تأثيرا بالاقتصاد العالمي منذ الکساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي.

 

وسرعان ما بدأت نواة هذه الأزمة من أزمة رهن عقاري نشأت في الولايات المتحدة الأمريکية خلال العام 2007، لتنتشر بسرعة متناهية في کافة أرجاء العالم لتشکل في الثلث الأخير من العام 2008 ما يسمى “الأزمة المالية العالمية”. إن بروز الأزمة المالية في الولايات المتحدة الأمريکية وانتقالها إلى بقية دول العالم کأزمة مالية عالمية کان بسبب هيمنة النظام الاقتصادي الرأسمالي على المستوى العالمي، وشدة ترابط النشاطات المالية الدولية وانهيار الحواجز التي تحد من تمددها بسبب العولمة، فضلا عن ظهورها في أکبر اقتصاد بالعالم وأکثرها تأثيراً وترابطا مع الاقتصاديات الأخرى.

 

أثرت الأزمة المالية العالمية على مختلف النشاطات الاقتصادية في کافة الدول دون استثناء، إلا إن مدى تأثر اقتصاد کل دولة بالأزمة، يعتمد على درجة الانفتاح الاقتصادي لتلک الدولة على الاقتصاد العالمي، ومدى تشابکه واندماجه في شتى المجالات المالية والاقتصادية کحجم التبادل التجاري والاستثمار، ونتيجة لتلک التداعيات على مختلف دول العالم، بادرت مختلف الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية بالقيام بالکثير من الجهود وإتخاذ تدابير وسياسات لمواجهتها والتخفيف من آثارها على اقتصادياتها الوطنية والاقتصاد العالمي بشکل عام.

 

ونجاعة الإجراءات والتدابير التي تتخذها الدولة منفردة للحد من تأثيرها في اقتصاداتها، إضافة إلى الجهود الرسمية إقليميا ودولياً لإمتصاص أثر الأزمة. ولا شک إن الجهود الحکومية والتدابير التي اتخذتها الهيئات الرقابية على أسواق الأوراق المالية والبنوک المرکزية في الدول العربية، قد ساعدت في إعادة انتعاش بعض أسواق الأوراق المالية والتخفيف من وطأة الأزمة المالية العالمية على النشاط الاقتصادي بشکل عام. وقد نجحت السياسات المالية التوسعية في الدول العربية فيدعم النشاط الاقتصادي جزئيا، في حين إن السياسة النقدية التوسعية التي اتبعتها بعض الدول العربية أدت إلى وصول معدلات الفائدة الأساسية في معظم الدول العربية إلى مستويات متدنية، مما ساهم في توفير السيولة وتخفيض کلفة الاقتراض، کما إن تدخلات الحكومات بشراء أسهم البنوك المدرجة لا سيما في دول الخليج قلل من فرص الإفلاس لکثير من البنوك لا سيما تلک المرتبطة بالديون المسمومة.

 

ومن الجدير بالذکر، بأن الدعوات المطالبة بمزيد من التحرر الاقتصادي وعدم التدخل بالسوق أصبحت دعوات غير مجدية، الأمر الذي جعل التشدد في التشريعات والقوانين التي تضبط الأسواق محل ترحيب لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولم يعد ينظر إليها على إنها تشکل عائقاً أمام تطور الأسواق.

 

وبناء على ما سبق، تستطيع الحكومات العربية ممثلة بوزاراتها الاقتصادية وبنوکها المرکزية وهيئاتها الرقابية، القيام بالعديد من التدابير والسياسات التي تساعد على تنويع مصادر الدخل، وبناء قاعدة إنتاجية متنوعة ومتطورة لاقتصاداتها وتقوية کياناتها للتصدي للأزمات الاقتصادية وتقليل المخاطر، وتنشيط مختلف قطاعاتها الاقتصادية

 

کما أن استقلالية البنوک المرکزية وعدم تعرضها للضغوط السياسية تعطيها قدرة أکبرعلى تحقيقأهدافها. ومن هذه السياسات ما يلي؛

 

مبادرة الحکومات العربية المقتدرة في تأسيس مشاريع تنموية کبرى بالتعاون مع الصناديق التقاعدية والقطاع الخاص ثم طرحها للاکتتاب العام فيما بعد من خلال بورصاتها، الأمر الذي يعزز الاستثمار بنوعيه الحقيقي والمالي وتوفير فرص عمل وتنويع مصادر الدخل وتوسيع القاعدة الإنتاجية.

 

تشجيع تحويل الشرکات العائلية إلى مساهمة عامة للمحافظة على استدامتها من خلال تقديم الحوافز المؤقتة کالقروض الميسرة والإعفاء الضريبي والجمرکي للمعدات والأدوات التي تستوردها.

 

تقييم جدوى الاستثمارات الحکومية والصناديق التقاعدية في الدول العربية، ومدى نجاح سياساتها الاستثمارية خلال المدة الماضية للوقوف على مدى تحقيق تلک الاستثمارات لأهدافها التي أنشئت من أجلها ومدى قدرتها على الاستقرار والاستدامة.

 

تحويل جزء من الشرکات التي تمتلكها الدولة بالکامل إلى شرکات مساهمة عامة عن طريق طرح جزء من حصتها للاکتتاب العام لإخضاعها إلى قواعد الحوکمة ليسهل مراقبتها وتقييمها الدوري.

 

إدخال أدوات استثمارية جديدة لسوق الأوراق المالية تتناسب مع التطورات الراهنة وتنسجم مع رغبات المستثمرين.

 

استغلال الفوائض المالية المتحققة في بعض الدول العربية وصناديقها السيادية في استثمارات حقيقية في القطاعات الإنتاجية في دولها والدول العربية والدول الناشئة لتنميتها للأجيال الحالية والقادمة.

 

وضع خطة طموحة وطويلة الأجل في دول الخليج ترمي إلى خفض تصديرها من النفط الخام بهدف تنويع مصادر الدخل، وتحويل نفطها إلى منتجات مکررة أو بتروکيماوياتواستخدام النفط والغاز کخطوط تغذية لصناعاتها، مضيفة بذلک قيمة أکبر لصناعاتهاوتوفير فرص أکبر للعمل واستخدام البتروکيماويات والمنتجات المکررة کمدخلات لإنتاج سلع نهائية على مبدأ الروابط الأمامية والخلفية.

 

الترکيز على عمليات الإفصاح وتطبيق قواعد الحوکمة في الهيئات الرقابية، وتطوير الأطر والتشريعات الرقابية بشکل مستمر، والاهتمام بتنويع وتطوير أدوات استثمارية جديدة.

 

تعميق التعاون الإنتاجي والاقتصادي العربي العربي، وتعميق القاعدة الإنتاجية وزيادة التبادل التجاري البيني وتنويع أسواق صادراتها، وعلى جميع الأحوال لا بد من اليقين بان التحديات الإقليمية والعالمية تتطلب حلول إقليمية وعالمية کذلک.

 

إنشاء نظام إنذار مبکر عربي للتنبؤ بالأزمات المحلية والدولية، وتعزيز قدرات الأجهزة الرقابية والتنظيمية من خلال تطوير التشريعات وإنفاذها لتمکينها من تحديد ترکيز المخاطر في وقت مبکر ومنع نموها بصورة کبيرة إلى درجة تهدد النظام، وذلک من خلال رصد جميع المخاطر التي قد تکون الشرکات معرضة ومنکشفة عليها ثم اتخاذ تدابير للحد من تأثير تلک المخاطر وحماية سلامة النظام، لان ما کان يعيب هذه الأجهزة سهولة إنکار وجود المشکلات في الشرکات.

 

دعم الحکومات العربية ومساندتها للشرکات المتشابهة وتشجيعها نحو الاندماج لتشکيل کيانات اقتصادية قوية قادرة على امتصاص أي مشکلات مالية متوقعة وتعزيز قدراتها التنافسية إقليميا ودولياً لمواجهة الشرکات متعددة الجنسيات.

 

أن الأزمة المالية العالمية التي سببتها الولايات المتحدة الأمريکية دفعت تکاليفها مختلف دول العالم. وإن النظام الرأسمالي الغربي أصبح في موضع شکوک حول قدرته على تصحيح نفسه بنفسه عند تعرض الأنظمة الاقتصادية إلى التحديات الحقيقية، ودليل ذلک تدخل الدول الغربية غير المسبوق لإنقاذ مؤسساتها الاقتصادية. ومن الجدير بالذکر، إن أکبر المؤسسات الاقتصادية العالمية کصندوق النقد الدولي مثلا، قد فشل في التنبؤ بالأزمة قبيل وقوعها وتقديم مؤشرات أو اقتراحات لتفاديها، وهذا يعني إن آلية مراقبة الاقتصاد العالمي عاجزة عن التنبؤ بالأزمات المالية والاقتصادية المحتملة، ولا يوجد أنظمة إنذار مبکر حقيقية رغم کثرة الحديث عنها، کما يعني أيضا إن الفکر الرقابى القديم الذي کان معمولا به في الماضي يبرهن على عدم مناسبته للتطورات العالمية الجارية.

 

وهذا يشير بأن السياسات المتخذة لم تفلح بوقف نزيف تراجع سوق عمان المالي خلال المدة 2009-2015، وربما الانفتاح الزائد على الاستثمار الأجنبي في السوق المحلي يفسر جانب من هذا التراجع المزمن، إضافة إلى طبيعة المخاطر في هذا النوع من الاستثمار، فضلا عن إن غالبية السياسات المتخذة ما زالت مشاريع قوانين لم تترجم على أرض الواقع بعد. والواقع يدل على إن السياسات التي اتخذها البنک المرکزي الأردني أکثر فعالية من تلک المتخذة في هيئة الأوراق المالية.

 

ورغم الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية، فأنها لا تخلو من بعض الجوانب الإيجابية وأخذ العبر والدروس ومنها على سبيل المثال؛ إعادة ترتيب الأولويات، وإجراء مراجعة شاملة للخطط التنموية بعد أن بيّنت مواطن الخلل في مجالات متعددة کالحوکمة وإدارة المخاطر والعولمة، وتوجيه الاستثمارات المهاجرة للاستثمار في الأوطان، أو على الأقل تغيير خارطة الاستثمارات العربية وتنويعها. وکذلک إجراء مراجعة شاملة ومؤسسية ودورية للتشريعات التي تقلل الفجوة بين الاقتصاد الحقيقي وفقاعة الاقتصاد المالي. وهذا يعني أن سياسة ردود الأفعال لا تکفي بدون تطوير موسّع للأنظمة والتشريعات. کما ان فشل المؤسسات الدولية بالتنبؤ بالأزمات الاقتصادية قد يتطلب إعادة النظر بالأنظمة والقوانين التي تسير عمل المؤسسات الاقتصادية الدولية الکبرى، وکذلک إجراء مراجعة شاملة وجذرية للأسس التي قام عليها النظام الرأسمالي الذي يدعو الى التحرر المفرط، الأمر الذي يتطلب تغيير منهجي في أسلوب التعامل مع تلک الأزمات فضلا عن تطوير موسّع للأنظمة والتشريعات التي تهيئ الظروف المواتية للتعامل مع الأزمات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى